مقدمة:
يبدو أن فهم آلية الجّوع والشّبع أمر أساسيٌ لمكافحة ما يسمى بوباء البدانة. في بدايه الأمر يجب علينا فهم أن أجسامنا حساسة جداً للجوع أكثر من الشبع ولهذا الأمر سببٌ تطوري بحت. في غابر الأزمان كانت المجاعات أمراً ليس بالنادر وكان الحصول على الطعام تحدي حقيقي يواجهه الإنسان يومياً، أما في يومنا هذا فان الوصول للكثير من الأطعمة الغنية بالطاقة وبالسكاكر والنشويات المعدلة أمرٌ سهل جداً، وأنه لهذا السبب كان على أجسامنا قديماً التكيف على تناول الكثير من الطعام وتحويل هذا الطعام الى مصادر احتياطية من الطاقة على شكل دهون لاستخدامها عند الحاجة. بالمختصر يمكن القول أن أجسادنا تتحمل فائضاً من الطاقة أكثر بكثير من قدرتها على تحمل نقصان الطاقة والسبب ببساطة نزعة البقاء، ولكن اليوم انقلبت الحيلة على الساحر فلا يكاد يختلف اثنان على أن البدانة تشكل اليوم تحدياً حقيقياً على عاتق البشرية. وإذا كانت البدانة هي كثرة الأكل وكثرة الأكل سببها الجوع أو غياب الشبع فإنه من المنطقي التوغل في هذه التفاصيل
الدور غير المكتمل للوطاء Hypothalamus:
لنبدأ إذاً بمحاولة تفسير هذا الأمر. يوجد في دماغنا ما يسمى بالوطاء وفيه مراكز مسؤولة عن التوازن الطاقي، أي بكلمة أخرى عن تنظيم حاجة الجسم للطاقة من خلال تحليل كمية الحريرات المكتسبه وكمية الحريرات المصروفة يومياً. ولكن لو كان ذلك المسؤول الوحيد عن الجوع والشبع (جوع الحاجة للطاقة) لما كانت البدانة مشكلة متزايدة يومياً.
هناك ما يسمى بمراكز السعادة والرضاء hedonic/reward system والتي يمكن فرط تنبيهها بالأطعمة الحاوية على كميات كبيرة من السكر والدهون. إن دراسة هذه المراكز أمر جوهري إذا ما أردنا تحقيق نجاح مستقبلي في مكافحة هذا الوباء.
ماهو الجوع؟ ماهو الشبع؟
الجوع ببساطة هو الحالة البيولوجية التي تؤدي إلى البدء بتناول الطعام. يتم تحفيز هذه العملية البيولوجية من خلال عوامل ميكانيكية وعوامل هرمونية. العوامل الميكانيكية تتمثل بتنبه العصب المبهم من خلال غياب تمدد عضلات جدران المعدة بسبب عدم وجود الطعام بداخلها (الخواء). بينما العوامل الهرمونية تتمثل بهرمون الغريلين (المرتبط بشكل وثيق بالدوبامين) ونقص سكر الدم ( الرجاء التركيز على نقص سكر الدم كسبب للجوع)
لتبسيط الشبع كونه عملية معقدة جداً يمكن تعريفه بالحالة الفيزيولوجية الناتجة عن تراكم عوامل وإشارات مختلفة زمانياً ومكانياً والتي تؤدي الى انتهاء تناول الطعام. أي أن الشبع يأتي من المعدة والأمعاء والكبد والهرمونات المتعلقة بها (يبدو أن حالة الشبع تستغرق وقتاً أطول للاكتمال) إذاً ربما يجب أن نأكل ببطء؟
ماذا بعد؟
في المرحلة التالية يأتي دور العمليات الحسية والعقلية الواعية. لتبسيط الأمر فإن رؤية الطعام وتقدير كمية ونوعية الطعام وأيضاً شم الأطعمة له دور في إعاده قدح عملية الجوع (ربما يجب أن نتبعد عن فيديوهات الأكل على اليوتيوب؟!)
وبدون الدخول في التفاصيل يجب التنويه فقط إلى أهم مرحلة من الشبع وهو الشبع طويل الأمد الذي يتم السيطرة عليه بشكل رئيسي من خلال السكر وتركيز الأحماض الأمينية (أي البروتينات) في الدم والأغذية المؤكسدة في الكبد. إذاً لدينا هنا ثلاثي هام جداً أحد أعمدته هو السكر. وتسمى هذه المرحلة أيضاً بالشبع التالي للامتصاص، أي الشبع الذي يلحق امتصاص المغذيات من الأطعمة وردة فعل الجسم على هذه المغذيات (قد يستغرق الأمر فعلاً وقتاً طويلاً). لربما يجب أن نتوقف عن الأكل قبل الشعور بالشبع كون الشبع عملية تستغرق وقتاً ولها مراحل مختلفة؟!
جميع هذه المعلومات المرسلة من هرمونات المعدة والأمعاء والمرسلة من الألياف العضلية للمعدة بعد تمددها يتم معاينتها في مركز السيطرة على الطاقه في الوطاء لتحديد كمية الحريرات التي يحتاجها الجسم للبقاء.
بعض الاستراتيجيات المتوفرة لكبح الجوع:
من الآليات المقترحة لتخفيض كميه الطعام المتناول وبالتالي علاج البدانة هي الخيارات الجراحية (دون الدخول في تفاصيل هذه العمليات الجراحية والتوصيات العديدة في تركها لحالات البدانة الصعبة نظراً لكمية الاختلاطات ما بعد العمل الجراحي والأعباء الاقتصادية والصحية التي يشكلها جعل هذه العمليات مستطبة في حالات البدانة البسيطة). كان من المعتقد لزمن طويل أنه من خلال هذه العمليات الجراحية ومن خلال تصغير حجم المعدة يمكن الوصول الى تخفيض وزن حقيقي وثابت. ولكن اليوم توضح أنه من خلال بعض هذه العمليات تحدث تغييرات ثابتة في نسبة الهرمونات المفروزة في الجهاز الهضمي، على سبيل المثال الانكريتين، الهرمون الشبيه بالغلوكاغون والببتيد الهضمي المثبط. ولهذا الأمر دور أساسي في تحقيق تخفيض وزن مستمر. إذاً هناك عوامل ميكانيكية (حجم المعدة) وعوامل هرمونية (هرمونات الجهاز الهضمي) مسؤولة عن الجوع والشبع.
هناك أيضاً خيارات علاجية ودوائية هدفها التاثير على السبل العصبية المسؤولة عن تنظيم الجوع والشبع. ولكن هنا يجب الحذر لأن هذه الأدوية ليست انتقائية في تأثيراتها ولها الكثير من الأعراض الجانبية، لذلك يجب قبل البدء بأي خيار علاجي استشارة الطبيب المختص لتقييم الحالة بشكل فردي قبل البدء بعلاج قد لا يكون مفيداً أو حتى ضاراً جداً.
من المهم أيضاً التركيز على العلاج السلوكي والنفسي ولا سيما في حالات اضطراب الأكل. لن ندخل في تشعبات هذا الموضوع في هذا المقال. بالمختصر : يتبع!
كيف يمكن تطبيق المعرفة من هذا المقال في الحياة اليومية؟
في محاولتي لجعل هذا المقال عملّي وتثقيفي أكثر أرغب في التوقف هنا، ولكن سأقوم بمحاولة لتلخيص ما ذكر واضافة نصائح عملية:
من الخطأ الاعتقاد أن الجوع هو حاجة فقط، فهناك جزء لا يمكن تجاهله من الجوع سببه الرغبة البحتة ويطلق عليه جوع السعادة أو الرضا hedonic hunger، وهنا في حياتنا اليومية يجب علينا أن نكون مسؤولين أمام أنفسنا عندما نشعر بالجوع والتفريق بين الرغبة والحاجة. أجوع أو لا أجوع!
مراكز المكافئة التي يتم تفعيلها بالسكر والشحوم مسؤلة عن إفراز هرمون الدوبامين. عند تناول كميات كبيرة من السكر والشحوم أو تناول الأطعمة المعدّلة (أي شيء ليس كامل أو مجرى عليه عمليات فيزيائية او كيميائية لجعل امتصاصه وتناوله أسهل) فسيتعطل تنظيم مراكز المكافئة هذه وسيتحول الطعام الى إدمان حقيقي يختبئ ورائه الإدمان على الدوبامين. يمكن كسر هذه الحلقة بالتخفيف من الأطعمة التي تؤدي الى فرط تفعيل جملة المكافئة (ماهي الأطعمة الي تؤدي الى هذه الحلقة المرضية؟ أعتقد أنك تعلم وتفكر بها الآن!)
إن الشبع عملية معقدة ومن أحد أهم أعمدتها هو السكر، وإن ارتباط السكر بالأنسولين أمر مفهوم جداً، بالتالي فإن تناول السكاكر السريعة الامتصاص سيرفع من نسبة الأنسولين في الدم وبالتالي سيشعر المرء بالجوع بسرعة أكبر. الهدف هنا هو معرفة أن تناول السكاكر السريعة سيؤدي الى الجوع اكثر مما سيؤدي للشبع.
تناول الأدوية الكابحة للشهية هو أمر يجب التفكير فيه مراراً وتكراراً والعد للألف قبل الشروع به.
التوجه للعمليات الجراحية يجب أن يقتصر فقط على البدانة المرضية والحالات الصعبة.
لا يجب أن ننسى أن احد الآليات المسؤولة عن الشبع هو تمطط ألياف المعدة لاستيعاب الطعام. هذه الآلية البسيطة يمكن أن نستغلها من خلال القول: يجب علي تنظيم طعامي بطريقة ما بحيث أستطيع تناول كميات كبيرة من الأطعمة صعبة الامتصاص لشغل الفراغ بالمعدة والمساعدة على قدح عملية الشبع. ومن هنا تأتي أهمية الألياف المتوفرة بشكل وفير جداً في جميع الأغذية النباتية.
يجب علينا فهم الفرق بين السكاكر سريعة الامتصاص والسكاكر متوسطة أو بطيئة الامتصاص، وهذه النقطة هامة جداً فهي مرتكز جميع الترّهات التسويقية على الانترنت التي تلقي اللوم على الكربوهيدرات في وباء البدانة. لهذا الموضوع تتمة لاحقاً.
في نهاية الأمر شكراً للقراءة، أتمنى أن أكون قد أنرت بعض من الظلمة المحيطة بهذا الموضوع وتركت عند القارئ أسئلة مفتوحة يجب عليه التفكير بها
المصادر:
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC4796328/
https://www.scientificamerican.com/article/how-sugar-and-fat-trick-the-brain-into-wanting-more-food/
https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/28572791/